من هو اليتيم ؟ هل هو الذي فقد أباه فقط ؟ وماذا عن اللقيط ومجهول النسب ، ألا يدخل هذان في مسمى اليتيم ؟.
لماذا كرر القرآن لفظ اليتيم ومشتقاتها أكثر من عشرين مرة ؟ .
كيف قدم الإسلام اليتامى ومجهولي النسب إلى المجتمع ؟ هل قدمهم على أنهم ضحايا القدر وبقايا المجتمع ، أم على أنهم فئة من صميم أبنائه ؟ .
من الذي جلب الإهمال والإذلال لليتيم ، هل هو اليتم نفسه أم ظلم المجتمع له ؟ .
كيف طرح القرآن مسألة اليتم ، وكيف تقاطعت في آياته أوامر الشريعة ودلالات اللغة وإرادة المكلف ، على تأسيس كفالة رحيمة وعلاقة صادقة بين اليتيم والمجتمع ؟ .
ما هو موقف القرآن الصريح ممن يدعُّ اليتيم ويمنعه من حقوقه الشرعية ؟ .
هذه الأسئلة الملحة نجاوب عليها خلال الكلمة التالية :
كثيرا ما نسمع عن الآباء الذين فلذ أكبادهم فقد أطفالهم ، وفطر نفوسهم موت أولادهم . يتناقل الناس أخبارهم في المجالس والتجمعات ، ويقدمون لهم التعزيات . ولكن قلما نسمع عن أطفال فجعوا بفقد آبائهم وذاقوا ألم اليتم في ساعات مبكرة من حياتهم .
عن هؤلاء اليتامى ومن هم في مثل ظروفهم ، يتغافل كثير من الناس ، شغلتهم أموالهم وبنوهم ، في الوقت الذي أمر به القرآن الكريم بإكرامهم وتخفيف معاناتهم وتعريف الناس بمصيبتهم ، وبالظروف العابسة التي أحاطت بهم وأطفأت الابتسامة من على هذه الوجوه الصغيرة .
نحن في هذه الكلمة عن اليتيم لا نقصد من فقد أباه فقط ، ولا نقتصر على المعنى الشائع لدى عامة الناس وحسب ، ولكن نتعداه إلى كل لقيط وكل من فقد العلم بنسبه ، لأن اليتم لديهما آكد ، والمصيبة عليهما أشد . وهذا ما يؤكده العرف الاجتماعي واللغوي ، ويدعمه النظر الفقهي الذي يرى إن إلحاق اللقيط ومجهول النسب باليتيم ، من باب الأولى لأن الحرمان عند كليهما ظاهر لا يخفى . كما في الفتوى التي أكدت أن مجهولي النسب ، هم في حكم اليتيم لفقدهم والديهم .
ويؤيد هذا المذهب من الفتوى ، قوله تعالى في الآية الكريمة : { فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين } الأحزاب- 5 . ووجه دلالتها على أن اللقطاء مجهولي النسب هم أحوج من غيرهم إلى الرعاية ، نكتشفه في ثلاثة مواضع :
الأول : عند حديث القرآن عن اليتامى قال تعالى : { وإن تخالطوهم فإخوانكم } البقرة- 220. لأن الأخوة الإيمانية مما تصلح به المخالطة ، بل هي غاية ما تتطلبه المعاملة . وفي الحديث : [ لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ ] البخاري .
وعندما تحدث عن مجهولي النسب قال تعالى : {فإخوانكم في الدين ومواليكم } . تأكيدا لحقهم الشرعي ، وتذكيرا بأن الاعتناء بهم هو من صميم الدين ، وليس فقط واجبا أو التزاما اجتماعيا .
الثاني : اشتملت الآية على معنى خفي يقربك - لو أدركته – مما ينبغي أن تكون عليه العلاقة الصادقة بين المجتمع من جهة ، وهؤلاء الأيتام القاعدين في سفح الهرم الاجتماعي من جهة أخرى . وهذا المعنى الخفي هو : أن الأخوة والولاية الدينيتين تسدان مسد الأبوة إذا فقدت . وهو عين ما دفع بالألوسي رحمه الله تعالى إلى القول في تفسير الآية { فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين } يقول [ فيه إشارة إلى أن للدين نوعا من الأبوة ] كما في تفسيره روح المعاني . لقد أبدل القرآن الكريم مجهولي النسب - عوضا عن هذا الحرمان - ، نسبا عقيديا جديدا ، ورحما دينية هي وحدها القادرة على جبر هذا الكسر المضاعف في نفوسهم . ولهذا اعتُبر مكذبا بالدين من يدعُّ اليتيم . فتأمل .
الثالث : قوله عز وجل : { فإن لم تعلموا آباءهم } أبلغ في المعنى من القول مثلا : فإن فقدوا آباءهم . لأن الفقد عدم . وحينئذ يكون الخطاب منصرفا إلى اليتامى بوفاة الآباء فقط لأن فقد الآباء متحقق عندهم بالموت .
أما عدم العلم بالشيء فلا ينفي وجوده ، فالأب قد يكون موجودا ولكنه غير معروف ولهذا قال تعالى { فإن لم تعلموا } وهذا آلم في النفس لدى مجهول الأبوين الذي لا يعلم عنهما شيئا، مما يحتاج معه إلى مزيد عناية واهتمام . وفي نفس السياق، تأتي إنْ الشرطية التي تفيد احتمال الوقوع ، لتفتح الباب واسعا أمام الاحتمالات الواردة التي قد تقف وراء عدم العلم بهؤلاء الآباء . ( كالاحتمالات التي أشير إلى بعضها في محور من هم )
هناك سؤال نعتبر الجواب عليه هو المدخل الوحيد لكيفية التعاطي مع هذه الفئة ، وهو الذي يرسم بوضوح نقطة البداية في التعامل مع اليتامى . هذا السؤال هو: كيف قدم الإسلام هذه الفئة إلى المجتمع ؟ . سؤال عميق تتقاطع في الجواب عليه أوامر الشرع وألفاظ اللغة وإرادة المجتمع المكلف . وحتى تتضح معالم هذا الجواب وما يحمله من المفاهيم المؤسسة للعلاقة الصادقة بين اليتيم والمجتمع ، نقدمه مفصلا من خلال عدة وجوه :
الوجه الأول : مع اللفظ ومعناه .
يبدأ القرآن الكريم كعادته دائما بتسمية الشيء باسمه ليبني على هذا الشيء مقتضاه . فعندما أطلق القرآن وصف اليتم بصيغة الإفراد والتثنية والجمع ، وكرر لفظ اليتيم ومشتقاتها أكثر من عشرين مرة في الكتاب العزيز ، كان المقصود من ذلك بيان أن صفة اليتم ليس فيها عيب ولا تهمة ، وأن فقد الآباء والأقرباء ليس سخرية من القدر أوجبت احتقارا من البشر . فاليتيم شخص كامل في شخصيته ، تام في إنسانيته . وبالتالي فلا مكان للشعور بالدونية أو الإحساس بالنقص لدى اليتيم .
كان وراء إطلاق هذا الوصف ، إفهام الناس أن اليتيم شخص وحيد منقطع مهمل ... على ما تؤديه هذه الكلمة من معان في اللغة ، كلها من لوازم اليتم ، وكلها تنطبق على اليتيم . وكان القصد منها طبعا لفت الانتباه إليه لسد حاجته وإصلاح شأنه .
الوجه الثاني : كيف قدم الإسلام اليتيم إلى المجتمع ؟ .
في أروع صورة إنسانية شهدتها المجتمعات الحضارية قدم الإسلام هذه الفئة إلى المجتمع .لم يقدمهم على أنهم ضحايا القدر أو بقايا المجتمع كما هو شائع في مجتمعات أخرى ،بل كانوا موضوعا لآية قرآنية كريمة رسمت عنهم صورة إيمانية تسمو على كل الارتباطات المادية والدنيوية . يقول تعالى : { وإن تخالطوهم فإخوانكم } البقرة- 220. وهذا في اليتامى . ويقول تعالى في موضع آخر : { فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم } الأحزاب- 5 وهذا في مجهول النسب ممن فقد والديه . ففقد العلم بالنسب يثبت للشخص بدلالة الآية الكريمة أخوة دينية وولاية خاصة تجلب له – عند تطبيق مقتضياتها – مصالح جمة وخدمات لا تحصى .
أخوة دينية . من منا يقول لليتيم : أخي ، ويقول لليتيمة أختي ؟ . ولئن كانت هذه التسمية هي الحقيقة ، إلا أن فيها كذلك أدبا قرآنيا جما في الخطاب ، وتطييبا لقلوب هؤلاء المخاطبين المنكسرة نفوسهم .
إنهم إخواننا في الدين . ومن هنا ينبغي أن تبدأ علاقتنا بهم وسط مجتمع مسلم أدبه الإسلام ووصفه القرآن بأنه لا يدع اليتيم ولا يقهره ولا يأكل ماله ... ولما كان من معاني اليتم في اللغة الانفراد والهم والغفلة والضعف والحاجة ... كانت الدعوة إلى مخالطتهم والمبادرة بذلك من أفضل أساليب التطبيع الاجتماعي والدمج من داخل المؤسسة الاجتماعية ، بدءا بالمصافحة باليد كأبسط مظهر للمخالطة ، وانتهاء بالتزويج كأقصى مظهر لها ، مرورا بمنافع أخرى كالمؤاكلة والمشاربة والمساكنة وحسن المعاشرة ... فالكل داخل في مطلق المخالطة ، والجميع متحد في كسر الغربة النفسية التي قد يشعرون بها هؤلاء وهم داخل المجتمع . يقول الألوسي في تفسيره على الآية السابقة : [ المقصود : الحث على المخالطة المشروطة بالإصلاح مطلقا ، أي : إن تخالطوهم في الطعام والشراب والمسكن والمصاهرة ، تؤدوا اللائق بكم لأنهم إخوانكم ، أي : في الدين ] .
الوجه الثالث : إلام يحتاج اليتيم بداية ؟.
لو طرحت هذا السؤال على كل من عرف ظروف هؤلاء الأيتام وواكب معاناتهم ، لكان جوابه : إن أول ما يتطلعون إليه هو : المأوى . وهذا عين ما ذكره القرآن في التفاتة رحيمة بهذه الفئة . قال تعالى مخاطبا قدوة الأيتام r : { ألم يجدك يتيما فآوى ؟ } الضحى- 6. هذا أفضل ما عولجت به ظاهرة اليتم في شتى المجتمعات : توفير المأوى والملاذ الآمن لكل يتيم ، وبسرعة كبيرة على مايفيده العطف بالفاء . فكأن الآية خطاب إلى الأمة بالنيابة مؤداه : أيتها الأمة أمني لكل يتيم مأوى .
في الآية أيضا معنى لطيف لا يخفى على المتأمل وهو : لما امتن الله تعالى على نبيه r بإيوائه ، دل هذا على أن هذه نعمة تستحق الذكر . والذي ينظر في من آوى محمدا r يجد أنه جده عبد المطلب ومن بعده عمه أبوطالب ، مما يُفهِم أن من تمام نعمة الإيواء أن يوضع اليتيم في كنف أسرة وضمن عائلة ، إما قريبة وهذا هو الأصل ، يشهد لذلك الآية الكريمة :{ يتيما ذا مقربة }. وإلا فبعيدة .
وإن كنت أيها القارئ اللبيب ممن يعولون في فهم القرآن على معنى الألفاظ وعلاقاتها المنطقية فيما بينها ، فإليك هذه المعلومة اللغوية تأكيدا لما سبق . إذا كان اليتم هو : انقطاع الصبي عن أبيه ، فإن الإيواء هو : ضم الشيء إلى آخر . ولك أن تتخيل مدى التكامل في الآية التي نزلت دستورا للمجتمع . قطع هنا باليتم ، ووصل هناك بالإيواء ، يعني : لا مشكلة أبدا .
وإليك من كلام النبي r حول ذات الموضوع هذه النكتة . يقول r : [مَنْ مَسَحَ رَأْسَ يَتِيمٍ لَمْ يَمْسَحْهُ إِلا لِلَّه ،ِ كَانَ لَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ مَرَّتْ عَلَيْهَا يَدُهُ حَسَنَاتٌ] أحمد .
يتيم وشعر وحسنات . ما هو الرابط المعنوي بينها يا ترى ؟. إنه النمو ! . فاليتيم ينمو والشعر ينمو والحسنات تنمو وتزيد . وكما يخشى على الحسنات من السيئات ، وعلى نمو الشعر من الأوساخ والآفات ، كذلك يجب أن يخشى على اليتيم من الإهمال والضياع . فرجل أشعث أغبر قبيح المنظر ، مقراف للذنوب سيئ الخلق ، حاله هذه من حال المجتمع الذي لا يهتم باليتيم . إن كلمات الحديث نفسها تقطر خوفا وجزعا على مصير اليتيم .
قل لي بربك : أين تجد مثل هذه الصورة الحية في غير كلام النبي r الحريص على الأيتام والغيور على حقوقهم ؟ . من غيره r أوتي جوامع الكلم وأسرار العبارة يخاطبنا ، حتى نستولد نحن المعاني من ألفاظها حية نابضة ، تزعج عقولنا فتلهب نفوسنا إلى تطبيق الأمر الشرعي ؟. ومن غير المسلم وفقه الله تعالى إلى أن يطوي كل هذه المعاني العظيمة ، بمسحة واحدة من يده ؟!
لماذا كرر القرآن لفظ اليتيم ومشتقاتها أكثر من عشرين مرة ؟ .
كيف قدم الإسلام اليتامى ومجهولي النسب إلى المجتمع ؟ هل قدمهم على أنهم ضحايا القدر وبقايا المجتمع ، أم على أنهم فئة من صميم أبنائه ؟ .
من الذي جلب الإهمال والإذلال لليتيم ، هل هو اليتم نفسه أم ظلم المجتمع له ؟ .
كيف طرح القرآن مسألة اليتم ، وكيف تقاطعت في آياته أوامر الشريعة ودلالات اللغة وإرادة المكلف ، على تأسيس كفالة رحيمة وعلاقة صادقة بين اليتيم والمجتمع ؟ .
ما هو موقف القرآن الصريح ممن يدعُّ اليتيم ويمنعه من حقوقه الشرعية ؟ .
هذه الأسئلة الملحة نجاوب عليها خلال الكلمة التالية :
كثيرا ما نسمع عن الآباء الذين فلذ أكبادهم فقد أطفالهم ، وفطر نفوسهم موت أولادهم . يتناقل الناس أخبارهم في المجالس والتجمعات ، ويقدمون لهم التعزيات . ولكن قلما نسمع عن أطفال فجعوا بفقد آبائهم وذاقوا ألم اليتم في ساعات مبكرة من حياتهم .
عن هؤلاء اليتامى ومن هم في مثل ظروفهم ، يتغافل كثير من الناس ، شغلتهم أموالهم وبنوهم ، في الوقت الذي أمر به القرآن الكريم بإكرامهم وتخفيف معاناتهم وتعريف الناس بمصيبتهم ، وبالظروف العابسة التي أحاطت بهم وأطفأت الابتسامة من على هذه الوجوه الصغيرة .
نحن في هذه الكلمة عن اليتيم لا نقصد من فقد أباه فقط ، ولا نقتصر على المعنى الشائع لدى عامة الناس وحسب ، ولكن نتعداه إلى كل لقيط وكل من فقد العلم بنسبه ، لأن اليتم لديهما آكد ، والمصيبة عليهما أشد . وهذا ما يؤكده العرف الاجتماعي واللغوي ، ويدعمه النظر الفقهي الذي يرى إن إلحاق اللقيط ومجهول النسب باليتيم ، من باب الأولى لأن الحرمان عند كليهما ظاهر لا يخفى . كما في الفتوى التي أكدت أن مجهولي النسب ، هم في حكم اليتيم لفقدهم والديهم .
ويؤيد هذا المذهب من الفتوى ، قوله تعالى في الآية الكريمة : { فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين } الأحزاب- 5 . ووجه دلالتها على أن اللقطاء مجهولي النسب هم أحوج من غيرهم إلى الرعاية ، نكتشفه في ثلاثة مواضع :
الأول : عند حديث القرآن عن اليتامى قال تعالى : { وإن تخالطوهم فإخوانكم } البقرة- 220. لأن الأخوة الإيمانية مما تصلح به المخالطة ، بل هي غاية ما تتطلبه المعاملة . وفي الحديث : [ لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ ] البخاري .
وعندما تحدث عن مجهولي النسب قال تعالى : {فإخوانكم في الدين ومواليكم } . تأكيدا لحقهم الشرعي ، وتذكيرا بأن الاعتناء بهم هو من صميم الدين ، وليس فقط واجبا أو التزاما اجتماعيا .
الثاني : اشتملت الآية على معنى خفي يقربك - لو أدركته – مما ينبغي أن تكون عليه العلاقة الصادقة بين المجتمع من جهة ، وهؤلاء الأيتام القاعدين في سفح الهرم الاجتماعي من جهة أخرى . وهذا المعنى الخفي هو : أن الأخوة والولاية الدينيتين تسدان مسد الأبوة إذا فقدت . وهو عين ما دفع بالألوسي رحمه الله تعالى إلى القول في تفسير الآية { فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين } يقول [ فيه إشارة إلى أن للدين نوعا من الأبوة ] كما في تفسيره روح المعاني . لقد أبدل القرآن الكريم مجهولي النسب - عوضا عن هذا الحرمان - ، نسبا عقيديا جديدا ، ورحما دينية هي وحدها القادرة على جبر هذا الكسر المضاعف في نفوسهم . ولهذا اعتُبر مكذبا بالدين من يدعُّ اليتيم . فتأمل .
الثالث : قوله عز وجل : { فإن لم تعلموا آباءهم } أبلغ في المعنى من القول مثلا : فإن فقدوا آباءهم . لأن الفقد عدم . وحينئذ يكون الخطاب منصرفا إلى اليتامى بوفاة الآباء فقط لأن فقد الآباء متحقق عندهم بالموت .
أما عدم العلم بالشيء فلا ينفي وجوده ، فالأب قد يكون موجودا ولكنه غير معروف ولهذا قال تعالى { فإن لم تعلموا } وهذا آلم في النفس لدى مجهول الأبوين الذي لا يعلم عنهما شيئا، مما يحتاج معه إلى مزيد عناية واهتمام . وفي نفس السياق، تأتي إنْ الشرطية التي تفيد احتمال الوقوع ، لتفتح الباب واسعا أمام الاحتمالات الواردة التي قد تقف وراء عدم العلم بهؤلاء الآباء . ( كالاحتمالات التي أشير إلى بعضها في محور من هم )
هناك سؤال نعتبر الجواب عليه هو المدخل الوحيد لكيفية التعاطي مع هذه الفئة ، وهو الذي يرسم بوضوح نقطة البداية في التعامل مع اليتامى . هذا السؤال هو: كيف قدم الإسلام هذه الفئة إلى المجتمع ؟ . سؤال عميق تتقاطع في الجواب عليه أوامر الشرع وألفاظ اللغة وإرادة المجتمع المكلف . وحتى تتضح معالم هذا الجواب وما يحمله من المفاهيم المؤسسة للعلاقة الصادقة بين اليتيم والمجتمع ، نقدمه مفصلا من خلال عدة وجوه :
الوجه الأول : مع اللفظ ومعناه .
يبدأ القرآن الكريم كعادته دائما بتسمية الشيء باسمه ليبني على هذا الشيء مقتضاه . فعندما أطلق القرآن وصف اليتم بصيغة الإفراد والتثنية والجمع ، وكرر لفظ اليتيم ومشتقاتها أكثر من عشرين مرة في الكتاب العزيز ، كان المقصود من ذلك بيان أن صفة اليتم ليس فيها عيب ولا تهمة ، وأن فقد الآباء والأقرباء ليس سخرية من القدر أوجبت احتقارا من البشر . فاليتيم شخص كامل في شخصيته ، تام في إنسانيته . وبالتالي فلا مكان للشعور بالدونية أو الإحساس بالنقص لدى اليتيم .
كان وراء إطلاق هذا الوصف ، إفهام الناس أن اليتيم شخص وحيد منقطع مهمل ... على ما تؤديه هذه الكلمة من معان في اللغة ، كلها من لوازم اليتم ، وكلها تنطبق على اليتيم . وكان القصد منها طبعا لفت الانتباه إليه لسد حاجته وإصلاح شأنه .
الوجه الثاني : كيف قدم الإسلام اليتيم إلى المجتمع ؟ .
في أروع صورة إنسانية شهدتها المجتمعات الحضارية قدم الإسلام هذه الفئة إلى المجتمع .لم يقدمهم على أنهم ضحايا القدر أو بقايا المجتمع كما هو شائع في مجتمعات أخرى ،بل كانوا موضوعا لآية قرآنية كريمة رسمت عنهم صورة إيمانية تسمو على كل الارتباطات المادية والدنيوية . يقول تعالى : { وإن تخالطوهم فإخوانكم } البقرة- 220. وهذا في اليتامى . ويقول تعالى في موضع آخر : { فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم } الأحزاب- 5 وهذا في مجهول النسب ممن فقد والديه . ففقد العلم بالنسب يثبت للشخص بدلالة الآية الكريمة أخوة دينية وولاية خاصة تجلب له – عند تطبيق مقتضياتها – مصالح جمة وخدمات لا تحصى .
أخوة دينية . من منا يقول لليتيم : أخي ، ويقول لليتيمة أختي ؟ . ولئن كانت هذه التسمية هي الحقيقة ، إلا أن فيها كذلك أدبا قرآنيا جما في الخطاب ، وتطييبا لقلوب هؤلاء المخاطبين المنكسرة نفوسهم .
إنهم إخواننا في الدين . ومن هنا ينبغي أن تبدأ علاقتنا بهم وسط مجتمع مسلم أدبه الإسلام ووصفه القرآن بأنه لا يدع اليتيم ولا يقهره ولا يأكل ماله ... ولما كان من معاني اليتم في اللغة الانفراد والهم والغفلة والضعف والحاجة ... كانت الدعوة إلى مخالطتهم والمبادرة بذلك من أفضل أساليب التطبيع الاجتماعي والدمج من داخل المؤسسة الاجتماعية ، بدءا بالمصافحة باليد كأبسط مظهر للمخالطة ، وانتهاء بالتزويج كأقصى مظهر لها ، مرورا بمنافع أخرى كالمؤاكلة والمشاربة والمساكنة وحسن المعاشرة ... فالكل داخل في مطلق المخالطة ، والجميع متحد في كسر الغربة النفسية التي قد يشعرون بها هؤلاء وهم داخل المجتمع . يقول الألوسي في تفسيره على الآية السابقة : [ المقصود : الحث على المخالطة المشروطة بالإصلاح مطلقا ، أي : إن تخالطوهم في الطعام والشراب والمسكن والمصاهرة ، تؤدوا اللائق بكم لأنهم إخوانكم ، أي : في الدين ] .
الوجه الثالث : إلام يحتاج اليتيم بداية ؟.
لو طرحت هذا السؤال على كل من عرف ظروف هؤلاء الأيتام وواكب معاناتهم ، لكان جوابه : إن أول ما يتطلعون إليه هو : المأوى . وهذا عين ما ذكره القرآن في التفاتة رحيمة بهذه الفئة . قال تعالى مخاطبا قدوة الأيتام r : { ألم يجدك يتيما فآوى ؟ } الضحى- 6. هذا أفضل ما عولجت به ظاهرة اليتم في شتى المجتمعات : توفير المأوى والملاذ الآمن لكل يتيم ، وبسرعة كبيرة على مايفيده العطف بالفاء . فكأن الآية خطاب إلى الأمة بالنيابة مؤداه : أيتها الأمة أمني لكل يتيم مأوى .
في الآية أيضا معنى لطيف لا يخفى على المتأمل وهو : لما امتن الله تعالى على نبيه r بإيوائه ، دل هذا على أن هذه نعمة تستحق الذكر . والذي ينظر في من آوى محمدا r يجد أنه جده عبد المطلب ومن بعده عمه أبوطالب ، مما يُفهِم أن من تمام نعمة الإيواء أن يوضع اليتيم في كنف أسرة وضمن عائلة ، إما قريبة وهذا هو الأصل ، يشهد لذلك الآية الكريمة :{ يتيما ذا مقربة }. وإلا فبعيدة .
وإن كنت أيها القارئ اللبيب ممن يعولون في فهم القرآن على معنى الألفاظ وعلاقاتها المنطقية فيما بينها ، فإليك هذه المعلومة اللغوية تأكيدا لما سبق . إذا كان اليتم هو : انقطاع الصبي عن أبيه ، فإن الإيواء هو : ضم الشيء إلى آخر . ولك أن تتخيل مدى التكامل في الآية التي نزلت دستورا للمجتمع . قطع هنا باليتم ، ووصل هناك بالإيواء ، يعني : لا مشكلة أبدا .
وإليك من كلام النبي r حول ذات الموضوع هذه النكتة . يقول r : [مَنْ مَسَحَ رَأْسَ يَتِيمٍ لَمْ يَمْسَحْهُ إِلا لِلَّه ،ِ كَانَ لَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ مَرَّتْ عَلَيْهَا يَدُهُ حَسَنَاتٌ] أحمد .
يتيم وشعر وحسنات . ما هو الرابط المعنوي بينها يا ترى ؟. إنه النمو ! . فاليتيم ينمو والشعر ينمو والحسنات تنمو وتزيد . وكما يخشى على الحسنات من السيئات ، وعلى نمو الشعر من الأوساخ والآفات ، كذلك يجب أن يخشى على اليتيم من الإهمال والضياع . فرجل أشعث أغبر قبيح المنظر ، مقراف للذنوب سيئ الخلق ، حاله هذه من حال المجتمع الذي لا يهتم باليتيم . إن كلمات الحديث نفسها تقطر خوفا وجزعا على مصير اليتيم .
قل لي بربك : أين تجد مثل هذه الصورة الحية في غير كلام النبي r الحريص على الأيتام والغيور على حقوقهم ؟ . من غيره r أوتي جوامع الكلم وأسرار العبارة يخاطبنا ، حتى نستولد نحن المعاني من ألفاظها حية نابضة ، تزعج عقولنا فتلهب نفوسنا إلى تطبيق الأمر الشرعي ؟. ومن غير المسلم وفقه الله تعالى إلى أن يطوي كل هذه المعاني العظيمة ، بمسحة واحدة من يده ؟!
الجمعة سبتمبر 17, 2010 4:18 am من طرف Admin
» حكم الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه السلام
الجمعة سبتمبر 17, 2010 4:11 am من طرف Admin
» كل عام وانت بخير
الجمعة سبتمبر 17, 2010 4:08 am من طرف Admin
» من فتنةالدجال
الأربعاء مارس 03, 2010 1:42 am من طرف أحمد عبدالله البطيشى
» ثواب من صلى ركعتين بعد الوضوء !!
الأربعاء مارس 03, 2010 1:28 am من طرف أحمد عبدالله البطيشى
» •°• هـل تـريـد بـيـتـاً فـي الـجـنـة ؟ •°•
الجمعة ديسمبر 11, 2009 12:27 am من طرف أحمد عبدالله البطيشى
» صفات يحبها الله
الجمعة ديسمبر 11, 2009 12:25 am من طرف أحمد عبدالله البطيشى
» لماذا الغراب بالذات يعلمنا كيف ندفن موتانا!.. سبحان الله
الجمعة ديسمبر 11, 2009 12:24 am من طرف أحمد عبدالله البطيشى
» فضل العشر الأوائل من ذي الحجة
الجمعة ديسمبر 11, 2009 12:20 am من طرف أحمد عبدالله البطيشى